كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم استؤنف عقب هذا الاستدلال باستفهام إنكاري تكريرًا لما تقدم عقب الأدلة السابقة زيادة في تعداد خطئهم بقوله: {أإله مع الله قليلًا ما تذكرون} وانتصب قليلًا على الحال من ضمير الخطاب في قوله: {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي فعل ذلك لكم وأنتم في حال قلة تذكركم، فتفيد الحال معنى التعجب من حالهم.
والتذكر: من الذُّكر بضم الذال وهو ضد النسيان فهو استحضار المعلوم، أي قليلًا استحضاركم الافتقار إلى الله وما أنتم فيه من إنعامه فتهتدوا بأنه الحقيق بأن لا تشركوا معه غيره.
فالمقصود من التذكر التذكر المفيد استدلالًا.
و{ما} مصدرية والمصدر هو فاعل، {قليلًا} والقليل هنا مكنّى به عن المعدوم لأن التذكر المقصود معدوم منهم، والكناية بالقليل عن المعدوم مستعملة في كلامهم.
وهذه الكناية تلميح وتعريض، أي إن كنتم تذكرون فإن تذكركم قليل.
وأصل {تذكرون} تتذكرون فأدغمت تاء التفعل في الذال لتقارب مخرجيهما تخفيفًا وهو إدغام سماعي.
وقرأ الجمهور {تذكرون} بتاء الخطاب.
وقرأه روح عن أبي عمرو وهشام عن ابن عامر بياء الغيبة على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، ففي قراءة الجمهور نكتة توجيه الخطاب إلى المشركين مكافحة لهم، وفي قراءة روح وهشام نكتة الإعراض عنهم لأنهم استأهلوا الإعراض بعد تذكرهم.
{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} بل لإضراب الانتقال من نوع دلائل التصرف في أحوال عامة الناس إلى دلائل التصرف في أحوال المسافرين منهم في البر والبحر فإنهم أدرى بهذه الأحوال وأقدر لما في خلالها من النعمة والامتنان.
ذكر الهداية في ظلمات الليل في البرّ والبحر.
وإضافة الظلمات إلى البر والبحر على معنى في.
والهُدى في هذه الظلمات بسير النجوم كما قال تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} [الأنعام: 97].
فالله الهادي للسير في تلك الظلمات بأن خلق النجوم على نظام صالح للهداية في ذلك، وبأن ركّب في الناس مدارك للمعرفة بإرصاد سيرها وصعودها وهبوطها، وهداهم أيضًا بمهاب الرياح، وخوّلهم معرفة اختلافها بإحساس جفافها ورطوبتها، وحرارتها وبردها.
وبهذه المناسبة أُدمج الامتنان بفوائد الرياح في إثارة السحاب الذي به المطر وهو المعنيّ برحمة الله.
وإرساله الرياح هو خلق أسباب تكونها.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {نُشُرا} بضمتين وبالنون.
وقرأه ابن عامر بالنون بضم فسكون.
وقرأ عاصم {بُشْرًا} بالموحدة وبسكون الشين مع التنوين.
وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين.
وقد تقدم في سورة الفرقان (48) {وهو الذي أرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته} وتقدم في سورة الأعراف (57) {وهو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته}، وتوجيه هذه القراءات هنالك.
وذُيّل هذا الدليل بتنزيه الله تعالى عن إشراكهم معه آلهة لأن هذا خاتمة الاستدلال عليهم بما لا ينازعون في أنه من تصرف الله فجيء بعده بالتنزيه عن الشرك كله وذلك تصريح بما أشارت إليه التذييلات السابقة.
{أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)}.
هذا انتقال إلى الاستدلال بتصرف الله تعالى بالحياة الأولى والثانية وبإعطاء المدد لدوام الحياة الأولى مدة مقدرة.
وفيه تذكير بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد.
والاستفهام تقريري لأنهم لا ينكرون أنه يبدأ الخلق وأنه يرزقهم.
وأدمج في خلال الاستفهام قوله: {ثم يعيده} لأن تسليم بدئه الخلق يلجئهم إلى فهم إمكان إعادة الخلق التي أحالوها.
ولما كان إعادة الخلق محلّ جدل وكان إدماجها إيقاظًا وتذكيرًا أعيد الاستفهام في الجملة التي عطفت عليه بقوله: {ومن يرزقكم من السماء والأرض} ولأن الرزق مقارن لبدء الخلق فلو عطف على إعادة الخلق لتوهّم أنه يرزق الخلق بعد الإعادة فيحسبوا أن رزقهم في الدنيا من نعم آلهتهم.
وإذ قد كانوا منكرين للبعث ذُيّلت الآية بأمر التعجيز بالإتيان ببرهان على عدم البعث.
والبرهان: الحجة.
وتقدم عند قوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربّكم في آخر سورة النساء} (174).
وإضافة البرهان إلى ضمير المخاطبين وهم المشركون مشير إلى أن البرهان المُعَجّزين عليه هو برهان عدم البعث، أي إن كنتم صادقين فهاتوه لأن الصادق هو الذي قوله مطابق للواقع.
والشيء الواقع لا يعدم دليلًا عليه.
وجُماع ما تقدم في هذه الآيات من قوله: {آلله خير أما تشركون} [النمل: 59] أنها أجملت الاستدلال على أحقية الله تعالى بالإلهية وحده ثم فصّلت ذلك بآيات {أمن خلق السموات والأرض إلى قوله قل هاتو برهانكم إن كنتم صادقين} [النمل: 60 64] فابتدأت بدليل قريب من برهان المشاهدة وهو خلق السموات والأرض وما يأتي منهما من خير للناس.
ودليل كيفية خلق الكرة الأرضية وما على وجهها منها، وهذا ملحق بالمشاهدات.
وانتقلت إلى استدلال من قبيل الأصول الموضوعة وهو ما تمالأ عليه الناس من اللجأ إلى الله تعالى عند الاضطرار.
وانتقلت إلى الاستدلال عليهم بما مكّنهم من التصرف في الأرض إذ جعل البشر خلفاء في الأرض، وسخر لهم التصرّف بوجوه التصاريف المعينة على هذه الخلافة، وهي تكوين هدايتهم في البر والبحر.
وذلك جامع لأصول تصرفات الخلافة المذكورة في الارتحال والتجارة والغزو.
وختم ذلك بكلمة جامعة لنعمتي الإيجاد والإمداد وفي مطاويها جوامع التمكن في الأرض.
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)}.
لما أبطلت الآيات السابقة إلهية أصنام المشركين بالأدلة المتظاهرة فانقطع دابر عقيدة الإشراك ثني عنان الإبطال إلى أثر من آثار الشرك وهو ادعاء علم الغيب بالكهانة وإخبار الجن، كما كان يزعمه الكهان والعرافون وسدنة الأصنام.
ويؤمن بذلك المشركون.
وفي معالم التنزيل وغيره نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة فما كان سؤالهم عن ذلك إلا لظنهم أن ادعاء العلم بوقتها من شأن النبوءة توصلًا لجحد النبوءة إن لم يعين لهم وقت الساعة فأبطلت الآية هذه المزاعم إبطالًا عامًا معياره الاستثناء بقوله: {إلا الله} وهو عام مراد به الخصوص أعني خصوص الكهان وسدنة بيوت الأصنام.
وإنما سلك مسلك العموم لإبطال ما عسى أن يزعم من ذلك، ولأن العموم أكثر فائدة وأوجز، فإن ذلك حال أهل الشرك من بين من في السماوات والأرض.
فالقصد هنا تزييف آثار الشرك وهو الكهانة ونحوها.
وإذ قد كانت المخلوقات لا يعدون أن يكونوا من أهل السموات أو من أهل الأرض لانحصار عوالم الموجودات في ذلك كان قوله: {لا يعلم من في السموات والأرض الغيب} في قوة لا يعلم أحد الغيب، ولكن أطنب الكلام لقصد التنصيص على تعميم المخلوقات كلها فإن مقام علم العقيدة مقام بيان يناسبه الإطناب.
واستثناء {إلا الله} منه لتأويل {من في السماوات والأرض} بمعنى: أحد، فهو استثناء متصل على رأي المحققين وهو واقع من كلام منفي.
فحق المستثنى أن يكون بدلًا من المستثنى منه في اللغة الفصحى فلذلك جاء اسم الجلالة مرفوعًا ولو كان الاستثناء منقطعًا لكانت اللغة الفصحى تنصب المستثنى.
وبعد فإن دلائل تنزيه الله عن الحلول في المكان وعن مماثلة المخلوقات متوافرة فلذلك يجري استعمال القرآن والسنة على سنن الاستعمال الفصيح للعلم بأن المؤمن لا يتوهم ما لا يليق بجلال الله تعالى.
ومن المفسرين من جعل الاستثناء منقطعًا وقوفًا عند ظاهر صلة {من في السماوات والأرض} لأن الله ينزّه عن الحلول في السماء والأرض.
وأما من يتفضل الله عليه بأن يظهره على الغيب فذلك داخل في علم الله قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 26، 27].
فأضاف غيب إلى ضمير الجلالة.
وأردف هذا الخبر بإدماج انتفاء علم هؤلاء الزاعمين علم الغيب أنهم لا يشعرون بوقت بعثهم بل جحدوا وقوعه إثارة للتذكير بالبعث لشدة عناية القرآن بإثباته وتسفيه الذين أنكروه.
فذلك موقع قوله: {وما يشعرون أيان يبعثون} أي أن الذين يزعمون علم الغيب ما يشعرون بوقت بعثهم.
و{أيان} اسم استفهام عن الزمان وهو معلِّق فعل {يشْعرون} عن العمل في مفعوليه.
وهذا تورّكٌ وتعيير للمشركين فإنهم لا يؤمنون بالبعث بَلْةَ شعورهم بوقته.
و{بل} للإضراب الانتقالي من الإخبار عنهم ب {لا يشعرون أيان يبعثون} وهو ارتقاء إلى ما هو أغرب وأشد ارتقاء من تعييرهم بعدم شعورهم بوقت بعثهم إلى وصف علمهم بالآخرة التي البعث من أول أحوالها وهو الواسطة بينها وبين الدنيا بأنه علم متدارك أو مدرك.
وقرأ الجمهور {إدَّارك} بهمز وصل في أوله وتشديد الدال على أن أصله تدارك فأدغمت تاء التفاعل في الدال لقرب مخرجيها بعد أن سكنت واجتُلِب همز الوصل للنطق بالساكن.
قال الفراء وشمر: وهو تفاعل من الدّرك بتفحتين وهو اللحاق.
وقد امتلكت اللغويين والمفسرين حيرة في تصوير معنى الآية على هذه القراءة تثار منه حيرة للناظر في توجيه الإضرابين اللذين بعد هذا الإضراب وكيف يكونان ارتقاء على مضمون هذا الانتقال، وذكروا وجوهًا مثقلة بالتكلف.
والذي أراه في تفسيرها على هذا الاعتبار اللغوي أن معنى التدارك هو أن علم بعضهم لَحِق علم بعض آخر في أمر الآخرة لأن العلم، وهو جنسٌ، لمّا أضيف إلى ضمير الجماعة حصل من معناه علوم عديدة بعدد أصناف الجماعات التي هي مدلول الضمير فصار المعنى: تداركت علومهم بعضها بعضًا.
وذلك صالح لمعنيين: أولهما: أن يكون التدارك وهو التلاحق الذي هو استعمال مجازي يساوي الحقيقة، أي تداركت علوم الحاضرين مع علوم أسلافهم، أي تلاحقت وتتابعت فتلَّقى الخلف عن السلف علمَهم في الآخرة وتقلدوها عن غير بصيرة ولا نظر، وذلك أنهم أنكروا البعث ويشعر لذلك قوله تعالى عقبه: {وقال الذين كفروا أإذا كنّا ترابًا وءاباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وءاباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين} [النمل: 67 68].
وقريب من هذا قوله تعالى في سورة المؤمنين (81): {بل قالوا مثل ما قال الأولون}.
الوجه الثاني: أن يكون التدارك مستعملًا مجازًا مرسلًا في الاختلاط والاضطراب لأن التدارك والتلاحق يلزمه التداخل كما إذا لحقت جماعة من الناس جماعة أخرى أي لم يرسوا على أمر واختلفت أقوالهم اختلافًا يؤذن بتناقضها، فهم ينفون البعث ثم يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله من العذاب، وهذا يقتضي إثبات البعث ولكنهم لا يعذبون ثم يتزودون تارة للآخرة ببعض أعمالهم التي منها: أنهم كانوا يحبسون الراحلة على قبر صاحبها ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى تموت فيزعمون أن صاحبها يركبها، ويسمونها البلية، فذلك من اضطراب أمرهم في الآخرة.